ما الذي تحتاج الحكومات إلى معرفته من أجل تحديد أهداف تحولها الرقمي؟
يجب على الحكومات أن تحرص على الحصول على أفضل قيمة ممكنة من أي استثمار، ويجب أن تتفادى الوقوع في فخ اعتماد مبادرةٍ ما لمجرد أنها تمثل توجهاً عصرياً وسائداً
ما زال التحول الرقمي حديثَ الساعة، ولا يمر يوم واحد من دون أن نسمع عن الاستثمارات الرقمية في الحكومة، التي تدفع الكثير من العوامل باتجاهها، ومن أكثر هذه العوامل انتشاراً هو تصاعد الضغوط على الحكومات لتحقيق المزيد من الإنجازات باستخدام موارد أقل، وفي نفس الوقت، تحسين تجربة المستهلك.
ففي كل يوم، نشهد أمثلة جديدة عن استثمارات كبيرة للحكومات في جميع أنحاء العالم في برامج التحول الرقمي، التي تركز على نواحي معينة في سلاسل التزويد للقطاع العام.
وحتى تتمكن الحكومات من تحقيق هذا التحول في بنيتها، تقوم بتأسيس وكالات مركزية للتحول الرقمي، وتعيين موظفين للعب دور مسؤولين أساسيين للمعلومات، أو مسؤولين أساسيين للمعلومات الرقمية، أو مديرين تقنيين، وذلك للمساعدة على تطوير الأنظمة والمنصات المشتركة وإطلاق المبادرات الضخمة. ولكن نظراً للتحول السريع في المشهد الرقمي، فإن قرارات الاستثمار تفتقر - إلى حد ما - إلى التوجه نحو الفائدة، وهو ما يؤدي إلى ضعف اتساق الأهداف والتأثير على فعالية هذه البرامج، ويقود بالتالي إلى إثارة التساؤلات حول جدوى هذه الاستثمارات.
وعلى الرغم من أنه لا يمكننا تحديد سبب واحد يمنع هذه المبادرات من تحقيق النتائج المطلوبة بشكل كامل، فإن أحد أكثر النواحي شيوعاً وأقلها حظوة بالاهتمام المطلوب هي عدم وجود هدف واضح وملزم للاستثمار. ووفقاً لتقديرات من الشركة العالمية للبيانات IDC، فإن 30-35% من إجمالي مشاريع المعلومات والتكنولوجيا تفشل بسبب عدم الاتساق في أولويات الأعمال أو الأهداف.
لقد لمحت إلى أهمية الهدف في بعض مقالاتي السابقة، وأرغب في التشديد على هذه النقطة مرة أخرى؛ فحالياً، أصبح من الهام أكثر من ذي قبل بالنسبة للحكومات أن توجه استثماراتها الرقمية وفق أهداف راسخة وواضحة. ومن وجهة نظري، فهذه هي الخطوة الأولى نحو الحصول على النتائج الكاملة من الاستثمارات الرقمية في الحكومات.
الهدف هو الإجابة على السؤال الأساسي والحساس: لماذا؟
يجب على الحكومات أن تحرص على الحصول على أفضل قيمة ممكنة من أي استثمار، ويجب أن تتفادى الوقوع في فخ اعتماد مبادرةٍ ما لمجرد أنها تمثل توجهاً عصرياً وسائداً. هناك حاجات خاصة لكل دولة ومجتمع، ولهذا يجب على الحكومات أن تتخذ قراراتها الاستثمارية لتحقيق أهداف راسخة تلعب دور منارة توجه القيادات نحو تحقيق نتائج مفيدة وملموسة للدولة.
أعمل شخصياً وفق هدف محدد، وهو مساعدة الحكومات على أن يصبح المواطن محور جميع قراراتها ومشاريعها، بحيث يستطيع كل مواطن الوصول إلى مرحلة الرضا الكامل.
ومن وجهة نظري الخاصة، فإن الأهداف الثلاثة المبنية على النتائج يجب أن تكون أساساً للقرارات الاستثمارية الحكومية في المبادرات الرقمية:
1- امتياز النتائج
2- امتياز العمليات
3- امتياز العميل
وسأتوسع في شرح كل بند من هذه البنود، وأشارك بعض الأمثلة على استخدام التحول الرقمي في الحكومات لتحقيق هذه الأهداف.
1- امتياز النتائج
الهدف الأساسي الأول للاستثمار في التحول الرقمي هو تمكين الحكومات من الإيفاء بوعودها وتقديم النتائج المطلوبة منها بأفضل طريقة ممكنة. وبفضل التطورات في العديد من التكنولوجيات -مثل التحليل التنبؤي والتوجيهي والتعامل مع البيانات الكبيرة والذكاء الاصطناعي- أصبح من الممكن جمع البيانات وتفسيرها بشكل غير مسبوق.
تلعب هذه التكنولوجيات دور عوامل إيجابية أساسية، ويمكن الاستفادة منها لبناء أنظمة وأدوات لتحديد وتتبع ومراقبة الأهداف ومؤشرات الأداء والتأثيرات الإستراتيجية، مما يساعد الحكومات على اتخاذ قرارات أفضل وأكثر اعتماداً على المعلومات والبيانات. وهو ما يمكن أن يساعد الحكومات، بدوره، على إعادة صياغة الإستراتيجيات والسياسات، والهيكليات والبرامج والأولويات المؤسساتية، وتوزيع الموارد بالشكل الأمثل لتحقيق وعودها للشعب والأمة. غير أن من الهام أن تكون القدرات والموارد والبنى التحتية الضرورية لتطبيق هذه التكنولوجيات موجودة وجاهزة.
وعلى سبيل المثال، فقد أسست الهند في البداية قاعدة بيانات وطنية لمواطنيها باستخدام نظام مبني على القياسات الحيوية (Aadhaar). وبعد ذلك، استُخدمت هذه البيانات من قِبل أنظمة تحليل متطورة لتحديد الثغرات وتحسين البرنامج الوطني للمساعدة الاجتماعية وغيره من برامج الدعم الحكومي. وقد أدت النتائج إلى إطلاق مخطط للتحويل المباشر للإعانات بشكل متصل بنظام Aadhaar في 2013، وأدى هذا إلى معالجة تسريبات بقيمة تتجاوز 11.6 مليار دولار.
2- امتياز العمليات
الهدف الأساسي الثاني هو تمكين الحكومات من تقديم منتجاتها وخدماتها بشكل أكثر فعالية وأعمق أثراً. ومرة أخرى، فإن التكنولوجيات الرقمية - مثل الأتمتة الروبوتية للعمليات والذكاء الاصطناعي وأساليب التحليل المتطورة - تلعب دوراً هاماً في تحسين إنتاجية القطاع العام. وعلى سبيل المثال، فإن أدوات أتمتة العمليات تؤدي إلى تحسين العمليات بشكل يتجاوز بكثير أساليب أمثلة وإعادة هيكلة العمليات أو المضاربة بالعمالة (أي نقل العمل إلى أماكن ذات تكاليف أقل من ناحية العمالة).
وإن الحلول الروبوتية تتفوق على الموظفين من حيث الأداء؛ فهي لا ترتكب الأخطاء، وتعمل دون توقف، ويمكن رفع إنتاجيتها حتى توافق التقلب في الطلب، كما أنها تتيح إمكانية التتبع والتدقيق ودراسة توافق العمليات بشكل كامل. إضافة إلى هذا، يمكن تطبيقها من دون تغيير أنظمة تكنولوجيا المعلومات الموجودة سابقاً وبنيتها التحتية، مما يخفّض من مخاطر التطبيق ويدعم استرجاع الاستثمار في فترة تتراوح ما بين 4 و6 أشهر.
وتعتبر هيئة الدخل والجمارك البريطانية (HMRC) واحدة من المؤسسات الكثيرة المنتشرة في كافة أنحاء العالم التي استفادت من عملية الأتمتة؛ ففي 2016، افتتحت مركزها الخاص بالأتمتة، وفي 18 شهر، تمت إدارة 7.5 مليون عملية من قِبل الروبوتات. وقد ساعد هذا على تخفيض تكاليف معالجة هذه العمليات بنسبة 80%، وتحسين الخدمات بتخفيض وقت التعامل مع المكالمات بنسبة تصل إلى 40%، وتحقيق استرجاع مضاعف للاستثمار خلال سنة.
وتمثل بوتات الذكاء الاصطناعي ذاتية التعلم الخطوة التي تلي الأتمتة الروبوتية للعمليات، وستسمح بأتمتة العمليات والوظائف التي تقع حالياً خارج نطاق الأتمتة الروبوتية للعمليات. ومن ناحية أخرى، فإن طرق التحليل المتطورة يمكن أن تساعد الحكومات ومؤسساتها على تحديد النواحي التي تحتاج إلى الرقمنة والأتمتة بشكل عاجل لتحقيق فوائد سريعة، إضافة إلى التحسينات التي تتيحها أساليب التحليل من حيث قياس فعالية العمليات.
3- امتياز العميل
الهدف الثالث، وربما قد يكون الأهم، هو تمكين الحكومات من تحسين تجربة العميل.
ويمكن أن تستفيد الحكومات من التحول الرقمي لتحقيق فهم أفضل لحاجات العملاء ورغباتهم وتوقعاتهم، والحصول على معلومات في الزمن الحقيقي حول مستوى رضاهم عن الخدمات المقدمة. إضافة إلى ذلك، فإن رقمنة الخدمات الحكومية أدت إلى تحسين إمكانية الوصول والتوافر إلى حد كبير، فقد أصبحت متاحة طوال الوقت، وهو ما يسمح للحكومات بتجاوز الروتين الذي يترافق عادة مع الخدمات الحكومية.
غير أننا ما زلنا في البداية فيما يتعلق باستخدام التحول الرقمي لتقديم تجربة أفضل، أما الإمكانات الحقيقية للتحول الرقمي فيمكن الحصول عليها بجعل الخدمات أكثر ذكاء وتطوراً.
وقد بدأت بعض البلدان (مثل سنغافورة ونيوزيلندا والدنمارك) بإجراء التجارب على خدمات الحكومة الذكية التي تستفيد من البيانات باستخدام تكنولوجيات رقمية عميقة الأثر مثل الذكاء الاصطناعي والتحليل المتقدم. وتم تصميم هذه الخدمات التنبؤية والشخصية بحيث تركز على الأحداث الحياتية الهامة، وتحاول أن تلقي نظرة شاملة على رحلة الحياة للمواطن.
وعلى سبيل المثال، فإن مبادرة "لحظات الحياة" في سنغافورة تجمع خدمات حكومية هامة من وكالات مختلفة حول لحظات هامة في حياة المواطن، وهو ما يقدم تجربة سلسة ومريحة للمواطنين، حيث لا يحتاجون إلى التعامل مع عدة وكالات حكومية للحصول على الخدمات. وضمن هذه المبادرة، يتم تقديم تطبيق للعائلات التي تحوي أطفالاً بعمر 6 سنوات على الأكثر، ويقدم هذا التطبيق معلومات مخصصة يحتاجها الأهالي وأولياء الأمور بناء على البيانات الملقمة للنظام. وتخطط البلاد لتوسيع هذه المبادرة لتشمل المزيد من لحظات الحياة بحلول نهاية العام 2022.
إضافة إلى ذلك، فإن القدرات الرقمية المتعلقة بالبيانات، والمخصصة لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة الرئيسية التي حددتُها هنا، يمكن أن تساعد الحكومات أيضاً على النظر إلى تجربة المستخدم من وجهة نظر أكثر شمولية تتجاوز تقديم الخدمات.
ولاحقاً، سأدرس كل واحد من هذه الأهداف الثلاثة بمزيد من التفصيل، وذلك وفق وجهات نظر تتعلق بالوظائف والقطاعات المختلفة. فسوف تدرس وجهة نظر القطاعات دور كل من هذه الأهداف الثلاثة في مساعدة الاستثمارات الرقمية في قطاعات كبيرة مثل الرعاية الصحية والتعليم والرعاية الاجتماعية والتقاعدية والبنى التحتية والنقل العام وغير ذلك. في حين أن وجهة النظر الوظيفية ستركز على مفاهيم مثل الإستراتيجية والحوكمة وغيرها. كما سأتحدث قليلاً عن القدرات الرقمية المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف، بالإضافة إلى ما يجب تفاديه عند بدء رحلة التحول الرقمي.
وفي نهاية المقالة، أدعوكم لمشاركتها على نطاق واسع وإغنائها بآرائكم وتعليقاتكم؛ من أجل زيادة فائدة هذا الحوار المهم للحكومات حول العالم.
نشر هذا المقال بقلم محمد سير في 14 يناير 2020 على موقع مجلة "إم آي تي تكنولوجي ريفيو".