القدوة الحسنة: من إستونيا الإلكترونية إلى العالم
تتصدر إستونيا دول العالم في مجال التحول الرقمي والخدمات الحكومية الذكية، وهي تسعى من خلال وضع التكنولوجيا الرقمية في صلب حكومتها إلى تحويل كافة خدماتها إلى خدمات إلكترونية
استعادت إستونيا استقلالها عام 1991، لكننا قطعنا شوطاً طويلاً جداً، ليس في مجال الحوكمة والازدهار الاقتصادي فحسب، بل أكثر من ذلك. فعندما يتعلّق الأمر أيضاً بالحلول الرقمية التي يوفرها بلدنا لدول العالم، يمكن لإستونيا أن تقدّم إسهاماً كبيراً فيما يخص ما يخبئه لنا المستقبل من الاستعمال الكفوء للموارد والخدمات الإلكترونية السلسة التي تسمح لمواطنينا أن ينخرطوا في مزاولة أنشطتهم اليومية دون أن ينتابهم القلق بشأن كيفية التعامل مع بيروقراطية الدولة. أنا أؤمن بقوة أن المثال الذي تضربه إستونيا يُظهر كيف يمكن للأمم والاقتصادات أن تهيئ نفسها للمستقبل بكفاءة أكبر من ذي قبل. لقد وصلنا إلى مستوى من الرقمنة في حياتنا اليومية تسمح لنا بأن نطلق على أنفسنا لقب "إستونيا الإلكترونية - e-Estonia"، وذلك لأسباب وجيهة سأشير لبعضها في هذا المقال، وقد وصفت مجلة "وايارد" (WIRED) الشهيرة العام الماضي إستونيا باعتبارها أكثر الأمم تقدّماً رقمياً.
تساعد الحلول الرقمية اقتصاداتنا على النمو وترفع من كفاءة حكوماتنا، ما يقود العالم في نهاية المطاف إلى أن يصبح مكاناً أفضل. خلال السنوات العشرين الماضية، التزمت إستونيا بتحسين الأدوات الرقمية خدمةً للنمو الاقتصادي، وذلك بهدف تحسين الحوكمة والوصول إلى مجتمع أكثر تواصلاً من الناحية الإلكترونية. وفي تسعينيات القرن الماضي، لم يكن لدى إستونيا خيار سوى التعامل مع قضية الرقمنة بسبب قلة سكاننا الذين لا يزيدون على 1.3 مليون نسمة، إلى جانب غياب الموارد الطبيعية الوفيرة. وضمن هذه الظروف، أدركنا أن مستقبل إستونيا ورفاهيتها في الأيام القادمة يعتمدان اعتماداً كبيراً على الكفاءة والابتكار.
أسهمت الرؤية الرقمية اللاحقة لبلادنا إلى دخولها عالم الريادة في الابتكار الرقمي من خلال إنشاء منتجات وخدمات لا تدفع بإستونيا قدماً فحسب، وإنما قد تسهم أيضاً في تطوير المجتمعات الأخرى. لم نعد نرغب بأن نعرف أننا البلد الذي أشعل فتيل ثورة الحكومة الإلكترونية فقط، وإنما أيضاً بوصفنا حاضنة الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا عموماً. وقد صنّفت إحدى أبرز شركات رأس المال الجريء العالمية واسمها "إنديكس فينتشرز" (Index Ventures) مؤخراً بيئة ممارسة الأعمال في إستونيا بوصفها الأفضل في العالم للشركات الناشئة. وكانت إستونيا قد شهدت أصلاً ولادة أربع شركات "يونيكورن" أي تلك التي زادت قيمتها على المليار دولار ألا وهي "تاكسيفاي" (Taxify)، و"ترانسفيروايز" (Transferwise)، و"بلايتيك" (Playtech)، و"سكايب" (Skype) – وثمة عشرات الشركات الناشئة الآخذة بالنمو السريع التي توصف على أنها في طريقها المحتمل إلى أن تصبح بقيمة مليار دولار وهي تشكل فرصاً للاستثمار المجزي.
ما حققناه حتّى الآن في القطاع العام يمكن أن يكرر في القطاع الخاص أيضاً، وأنا أشعر بسعادة غامرة بنجاح شركات تكنولوجيا المعلومات الإستونية في عموم منطقة الخليج. فقد أنشأت شركاتنا الرائدة مثل "نورتال" (Nortal)، و"غاردتايم" (Guardtime)، وغيرهما من الشركات مكاتب لها في المنطقة وهي تنشط للغاية في تقديم المشورة لحكومات المنطقة حول كيفية تحقيق نتائجها المنشودة في مجال الكفاءة وتقديم الخدمات بسلاسة. وعلى سبيل القياس، يمكننا القول إنّ 98% من الشركات تمتلك حضوراً راسخاً على الإنترنت في إستونيا، و99% من جميع العمليات المصرفية تحصل عن طريق الإنترنت، و95% من الإفصاحات الضريبية تقدم عبر الإنترنت. يسمح ذلك لشعبنا وشركاتنا بالتركيز على أنشطتهم الأساسية. فهذا ليس مجرد دليل على الكفاءة، وإنما علامة رائعة على مقاربة إستونيا في التعليم، مع التركيز خصوصاً على تكنولوجيا المعلومات. ولطالما كانت أسماء المدارس الإستونية تظهر بشكل متّسق في قائمة أبرز اختبارات البرنامج الدولي لتقييم الطلبة "بيزا" (PISA)، بينما حظي تعليم تكنولوجيا المعلومات بالاحترام الكبير منذ بدايات انتشار الحواسب تقريباً.
تُعتبر التجربة الإستونية في تطوير الحكومة الإلكترونية لا نظير لها. فقد كنا رواداً في هذا المجال لأكثر من 20 عاماً، وبأكثر من 2,000 خدمة إلكترونية عامة توفر آلاف ساعات العمل البشرية كل عام. وهي تستند إلى نظام مباشر وموثوق جداً هو رقم الهوية الوطنية الفريد من نوعه، الذي يُمنح إلى كل مواطن تلقائياً عند ولادته. ليست الكلمة الأساسية هنا هي أنّ هذا الرقم إلزامي (وهو كذلك)، وإنما أنه محطّ ثقة. فمواطنونا لديهم اطلاع عام وشامل على أي استفسار حكومي بشأن بياناتهم، وهذا أمر يساعد في بناء الثقة. وثمة جانب آخر واضح ألا وهو سهولة استعمال الخدمات الحكومية. فنظام الهوية الشخصية الإستونية الشامل والفريد من نوعه يستند إلى الهوية الإلكترونية، المتاحة للأجانب أيضاً، في حال رغبوا بأن يصبحوا مقيمين إلكترونيين. وتسمح الهوية الإلكترونية بالتفاعل الرسمي مع جميع الوكالات الحكومية الإستونية دون حضور شخصي أو جسدي، وقد اكتسب برنامج المقيم الإلكتروني جاذبية في جميع أنحاء العالم في السنتين الأخيرتين. وأنا أدعوا جميع سيدات ورجال الأعمال في منطقة الخليج إلى التعرف على المزيد من التفاصيل حول هذه الفرصة المذهلة.
وضعت إستونيا نصب عينيها هدفاً يتمثّل في تحويل الحوكمة إلى عملية فاعلة وغير مرئية، لتكون بذلك بلداً سباقاً في استعمال التكنولوجيات المبتكرة والناشئة، مع تركيز واضح على الذكاء الاصطناعي بالتحديد. فالذكاء الاصطناعي هو موضوع يحظى بأولوية على المستوى الوطني في إستونيا، استناداً إلى الأجندة الرقمية الوطنية التي خضعت للتحديث مؤخراً في البلاد. وقد أنشئ فريق عمل من الخبراء لصياغة استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي، والأهم من ذلك لوضع إطار قانوني مناسب للتمكين من استعمال الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات الاقتصادية بحلول أواخر ربيع 2019. يتمثّل الهدف من إقرار الأنظمة القانونية للذكاء الاصطناعي في تحويل إستونيا إلى مختبر لطرح حلول مبتكرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في السوق وعلى أرض الواقع. في هذا المضمار، نحن نؤمن أنّ الدول بحاجة إلى العمل معاً لتبادل التكنولوجيا والمعارف والقدرات المتعلّقة بكفية الاغتنام الكامل للفرص التي تؤمّنها ابتكارات الذكاء الاصطناعي. ويسعدني للغاية أننا قد وقّعنا للتوّ مذكّرة تفاهم مع دولة الإمارات العربية المتحدة للعمل معاً كشركاء في هذا المجال.
ليست إدارة البيانات الرقمية مجرد مسألة تفاعل مبسط بين الدولة والمواطن، وإنما هي أيضاً بمثابة طريقة موحدة لتبادل المعلومات والتشارك بها بين شركاء القطاع الخاص. فالطريقة الإستونية تبسّط التشارك بالبيانات وبات لديها سجل حافل، وذلك هو السبب الذي يجعلنا قادرين على تصدير هذه التجارب إلى دول أخرى أيضاً. فحتّى تاريخه، يشمل قطاع تكنولوجيا المعلومات الإستوني أكثر من 100 بلد منخرط في مشاريع للاستشارة وبناء الحلول. وهذا أيضاً واحد من أسباب قرار إستونيا بالمشاركة في مؤتمر إكسبو 2020 في دبي، باعتباره يشكل المنتدى المثالي لتبادل الأفكار والترويج لما تستطيع إستونيا تقديمه في مجال الحكومة الإلكترونية وخدمات التحديد الآمن للهوية. كما قررت الحكومة الإستونية أيضاً افتتاح سفارة لها في أبوظبي بهدف تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين البلدين قدماً.
نشر هذا المقال بقلم رينيه تاميست عام 2019 على موقع "هارفارد بزنس ريفيو العربية".